شمس الدين العجلاني
من أين لنزار كل حكايات الحب التي يرويها؟
نزار:
المرأة نصف العالم.. وهل بالشيء القليل أن أهتم بنصف العالم؟!
كان بين نزار قباني وسعيد فريحة الصحفي اللبناني العتيق صاحب مجلة الصياد (صدرت عام 1943 ولم تزل تصدر حتى الآن) ومؤسس دار الصياد اللبنانية، صداقة متينة، حيث تعرفا على بعضهما منذ الخمسينات وامتدت هذه الصداقة والمحبة لحين فرق الدهر بينهما.
فتح سعيد فريحة صفحات مجلته الصياد لشاعر الشام نزار قباني، فكان يكتب فيها تارة مقالاً نثرياً، وأخرى قصيدة شعر، وثالثة لقاء يجريه أحد محرري الصياد مع شاعر الشام.
وهنا أحد اللقاءات التي أجراها الصحفي المخضرم أسعد المقدم مع نزار على صفحات الصياد بتاريخ 30 آب 1956، ويطرح شاعرنا من خلال هذا اللقاء العديد من القضايا والمواقف التي كانت تتناولها الساحة الأدبية آنذاك:
مع نزار قباني
من الخير في بلادي
من عطاء الربيع
من تدفق اللون وتراقصه
ولد... وكان أغنية حلوة، كحلاوة أحرفه المزوقة بأطيب الأحلام!
هو في عمرنا أكثر من لحظات سعيدة، أكثر من أيام محببة، أكثر من ذكريات خالدات!
إنه بعض عمرنا...
وأجمل ما فيه من معان.
هكذا عرفته...
وكذلك هو نزار قباني، شاعر العطر والجمال، ودنيا من الحب والفن، وأروع حكايات شبابنا وصبانا!..
وكان أن ضمنا موعد..
وجلست إليه أتأمل الأنامل الدقيقة التي صاغت أعذب الحروف وأطربها.. وذلك الشباب الحلو الذي حوى بين ضلوعه قصصاً من الحب لا تنتهي!..
وإذا تعجب سائل: من أين لنزار كل حكايات الحب التي يرويها..
فقل إنها حكاياته.. حكايات عمره.. حكايات شبابه!
والتفت إليه، وفي عيني ألف سؤال وسؤال، وقلت له:
لم اتجهت بشعرك إلى زاوية الغزل فقط؟
أجابني، وهو يلملم خواطره، ويستعيد ذكريات عمره كشاعر: إن " لم " هذه التي ابتدأت بها سؤالك في غير محلها.. فلا يمكننا أن نسأل: لم اتجه الإنسان إلى درب من الدروب، وترك أخرى!
إن تكوين الشاعر يتعرض لعوامل عدة.. والطريق التي يسير عليها ليست وليدة إرادته بقدر ما هي نتيجة نشأته وطفولته وثقافته، والأحاسيس والمشاعر التي عاشها وتفاعلت بها نفسه.
لقد حاولت بشعري أن أخرج بقضية الغزل عما عرفه الشعر العربي القديم، فسجلت الأشياء الأنثوية التي تحيط بحياة المرأة العربية المعاصرة، ووضعت العلاقات العاطفية التي يعيشها الشاعر في إطار عصري مذهب!.
قال جملته الأخيرة والتفت إلي ضاحكاً:
ألم تسمع بالمثل الذي يقول:
إن المرأة نصف العالم؟ وهل بالشيء القليل أن أهتم بنصف العالم؟!
وعدت أسأله من جديد:
لم هذه الصراحة الزائدة في غزلك؟ قال: أنا أعتقد أن الحرف بين يدي الشاعر يجب أن يشحن بأكبر طاقة ممكنة من الدفء ليستطيع أن ينقل إلى القارئ التجربة الشعرية بضراوتها واحترامها وتمزقها!.. لذلك، فإذا كنت قد ألححت على اختيار الحروف التي تسفح النار، وتنقل التجربة بلحمها ودمها إلى أصابع القارئ فلأني أؤمن بإمكانية الحرف على النقل... ونقل التجارب الصائحة تحتاج إلى حروف صائحة.. وكم أتعذب في صياغتي للحرف الصائح، لأنني أريده حرفاً جديداً لم يسبقني إليه أحد، ويعبر عن أعمق أعماق مشاعري وخلجات نفسي!... إن الحرف عندي يا صاحبي عبادة.. ولم يعرف بين العبادات ما هو أكثر آلاماً وعذاباً من عبادة الحرف!
قلت: أليس هناك حدود يجب أن يلتزم بها الشاعر؟
أجاب ساخراً:
إن التزامي الوحيد هو أن أكون مخلصاً للحرف بين يدي... وقضية الالتزام، كما طلع بها علينا الكتاب المعاصرون، إنما هي شكل جديد لنظام السخرة الذي كان يثقل عنق الشاعر العربي القديم... والفارق الوحيد أن ديكتاتورية الأمير أو الحاكم قد استبدلت بديكتاتورية الجماعة!.. إن قوام كل فن أصيل هو الحرية المطلقة، ولا يمكن لأي فن أن يتنفس دونها. وقفز عن مقعده ثائراً وهو يهتف: أعطوني حريتي... وخذوا كل شيء سواها!
قلت: بأي الشعراء تأثرت؟ قال: لقد اطلعت على مختلف التيارات الشعرية، سواء منها الأوروبية أم العربية، ثم استخلصت لنفسي طريقة خاصة، وآثرت أن أشق درباً – ولو صغيراً – له طيبه الخاص... وآفاقه الخاصة... وزهوره الغريبة.. وإني لكبير بهذه الطريق الصغيرة.. الأميرة.. التي شققتها لنفسي!
وهذا عندي أهم ما يميز حياة الشاعر، لأن الكلمة إما أن تكون سيدة، أو لا تكون... وعذاب الحرف هو أشرف عذاب يمكن أن يعانيه الإنسان! قلت: ما رأيك الجديد للتحرر من القافية والوزن في الشعر العربي؟
أجاب: لا شك بأن القصيدة العربية في تخطيطها القديم تعيق من انفلات العاطفة على مداها، والقوافي بدورها تأتي كالأقفال لتحبس الكلمة في حلق الشاعر، وتقطع نفسه في منتصف الطريق.. وذلك ما أدى إلى هذه "التجزيئية" في القصيدة العربية التي جعلت التجربة الشعرية تنقطع في نهاية كل بيت، لتلتقط أنفاسها في مطلع البيت التالي... وبمعنى آخر إن وجود القافية حال دون صيرورة القصيدة العربي كلاً يهدر في سمع القارئ كالسمفونية العظيمة.. أما الاتجاه المعاصر للفرار من عبودية عمود الشعر، فهي تجربة جزئية لم تتبلور بعد، وأعتقد أن السنوات القادمة ستقرر مصير هذا الاتجاه الجديد.
قلت: من هو أحب شاعر إلى نفسك من الشعراء المعاصرين؟
وأشعل سيكارة... وراح يتأمل حلقات دخانها المتصاعدة، ثم قال بشاعرية عذبة:
أحب كل ريشة تؤمن بعذاب الكلمة.. وتحترق لتعطي حياتها قبل أن توجد.. لذا كان أحب الشعراء إلى نفسي هم أولئك الذين يحترقون ويحرقون.. وسعيد عقل في رأيي قمة من قمم الأدب العربي المعاصر، لأنه رد للحرف اعتباره، ولأن أصابعه لا تغزل سوى الجديد الذي لا تحلم به الدواة!
قلت: ما رأيك بالحركة الشعرية الحاضرة في العالم العربي؟
قال: أنا معجب بهذه الانطلاقات الجديدة التي يتمزق عنها عالمنا العربي، والشعر العربي يقف على مفترق الطرق الآن، وهو رغم حيرته،.. بخطى مسرعة نحو المفهوم العالمي للشعر.. قلت: ما هو أجمل شيء في المرأة؟! وانفرجت أساريره.. وضرب بكف، بعد أن خلع سترته استعداداً..!
ثم هتف قائلاً: أجمل ما في المرأة هو جمالها.. التي دونه نجمة منطفئة.. ودورق من دون عطر!
قلت: ما هو السن الذي تفضل أن تكون فيه المرأة؟ قال: لكل سن مدلوله وروعته!.. زهرة جميلة وهي برعم، وجميلة وهي زهرة، وجميلة عندما تستحيل إلى ثمرة ناضجة.. والمرأة في نظري إما امرأة أو لا شيء إطلاقا!.. حكاية خير الأمور الوسط – بالنسبة للجمال – هي من أسخف ما سمعته في هذا الموضوع.. والمرأة الجميلة هي القصيدة الجميلة لا تقبل الحلول الوسط.
فإما قصيدة.. أولا قصيدة! وإما عينان جميلتان أولا عينان جميلتان!
فقلت: هل تؤمن بالحب العذري؟ فأجابني مبتسماً: افتح دواويني..
مقدار إيماني بمثل هذه.. ".. هذا النوع من.. النادر!.. فالحب العذري صداقة الرجل للرجل.. لا تفوح منها سوى رائحة الصقيع! قلت: والزواج.. وبالأخص زواج الفنان.. ما رأيك به؟ قال: الحرية هي أخطر مادة أولية لصناعة فن صحيح.. والزواج على كل حسناته – إذا كان ثمة حسنات له على الإطلاق!
يفترض التفريط بالحرية أو بجزء منها، وهو ما يتعارض مع الآفاق الفسيحة التي تقتضيها صناعة النار، أعني الشعر! قلت: وكم كان عمرك عندما أحببت للمرة الأولى؟ أجابني: أنا لم أعرف دقيقة واحدة في حياتي لم أحب فيها.. وحكاية " ما الحب إلا للحبيب الأول" هي أكبر كذبة ابتدعها أفشل شاعر.
ونظر إلي وهو يغمزني بإحدى عينيه.. ثم تابع قائلاً: إن صديقي سعيد فريحة هو في طليعة المؤمنين بهذه الحقيقة.
قلت: فما هو عدد اللواتي أحببت؟- إن ذاكرتي
ضعيفة من هذه الناحية! – واللواتي أحببنك؟ - اسألهن!
وبحثت عن سؤال لا يمكنه التهرب منه بأجوبة دبلوماسية.. وعدت أسأله من جديد: ما هي قصة قصيدتك "خبز وحشيش وقمر" التي ثار من أجلها البرلمان السوري والمتزمتون من رجال الدين؟
قال: إن قضية هذه القصيدة هي قصة الواقع الذي نفر دوماً من وجهه دون الاعتراف به.. ولقد حاولت في هذه القصيدة أن أسلط الضوء على هذه البدعة والاتكالية والغيبوبة المتصلة التي أكلت وتأكل من أعمارنا وأعمار هذا الشرق.. إن الإصلاح لا بمواجهتها بشجاعة... ووظيفة الفن هي تسليط النور على المشكلة، دون الدخول في التفاصيل ووصف العلاج، وهذا ما فعلته بالضبط.
وإذا كنت قد لقيت في سبيل هذه القصيدة الكثير من التجريح، فأنا كبير بهذه النهاية التي انتهت بها قصيدتي... وهذا دليل على أن القصيدة استطاعت أن تقتطع الأسطورة من جذورها وتأتي إلى أبي زيد الهلالي على إيوانه.. فتخنقه!
قلت: هلا رويت لي قصة حب امرأة مرت في حياتك؟ قال: مثل هذه القصص أؤثر أن تبقى مزروعة في قلبي.. والقصة الأخيرة هي دائماً الأجمل! قلت له فما هي آخر قصيدة نظمتها؟ أجابني:
إنها بعنوان "22 نيسان"... وتدفقت بعدها الأحرف وهو ينشد قائلاً:
إنني أعبد عينيك.. فلا
تنبئي الليل بهذا الخبر..
أعقد الشمال، فلو أنت معي
مرة.. غيرت مجرى القدر..
المشاوير التي لم نمشها
بعد، تدعوك.. فلا تفتكري
وتوقف فجأة، ثم التفت إلي قائلاً: أنت طماع! قلت: الطمع فيك.. ينفع ولا يمكنه أن يضر!. قال: وآخرتها معك؟ قلت: طيب.. سؤال أخير.. وتمتم بحرارة: الحمد لله... قلت: هل تحب الآن؟!
أجابني وهو يلتقط سترته، ويهرول هارباً: خليها لله..
ومشى بضع خطوات.. ثم أردف مستدركاً: ولضمير الحبيبة.. وكرمها!
وتركت نزار قباني، وأنا مؤمن بأنه سيحب دائماً، حتى آخر قطرة من دمائه... وآخر خلجة من خلجات نفسه وإذا سئلت في قريب أو بعيد: من أين جاء نزار قباني وكيف كان؟ فسأقول لهم: من الحلم الخصيب.. من مرتع الأوهام في علم الغيوب.. من القلب، من الحب، من الطيب!