عبدالحليم.. عاش "سواح" ومشى "على قد الشوق" ورحل
"جباااار" قبل أن يعرف "حبيبته من تكون"
اكتوت الجميلات بنار رومانسيته، لكن أعضاء فرقته الموسيقية
انفجروا ضحكًا على إفيهاته اللاذعة...
تمنت العذارى أن يبللن بالدموع وسادته الخالية،
لكن أصدقاءه فى الوسط الفنى تمنوا ألا يقعوا ضحايا لمقالبه الساخنة.
اتخذه العشاق تميمة للغرام، لكن جليل البندارى اتخذه هدفًا لمدفعية شتائمه الثقيلة...
أعلنه أهل الهوى أميرًا متوجًا على عرش القلوب الجريحة،
لكن كامل الشناوى أعلنه نجمًا فوق العادة وفرض على إحسان عبدالقدوس أن يستقبله فى بيته
بالملابس الرسمية...
هنا بعض ملامح الوجه الآخر الساخر لعندليب كان فى ضحكته جبااااار...
الناقد الفنى "جليل البندارى" كان أول من أطلق على
"عبد الحليم حافظ" لقب "العندليب الأسمر"، وكان من أحب الألقاب إلى قلب "حليم:"..
وبين حليم وجليل حكاية طريفة يرويها "مجدى العمروسى"
صديق عمره، قائلًا: علم "عبد الحليم" أن "البندارى" كان يسب ويلعن –
على سبيل المداعبة - كل من يجرى معه حوارًا صحافيًا
إضافة إلى كونه حاد الطبع، سليط اللسان،
من أجل ذلك كان يتجنب أن يقع تحت يديه فى حوار صحافى
فيسمع منه مالا يرضاه أو يقبله، فى نفس الوقت كان "عبد الحليم"
يعرف أن إجراء مثل هذا الحديث سوف يضيف إليه الكثير،
فذهب إلى صديقه الأستاذ الكبير"محمد حسنين هيكل"،
وكان وقتها رئيس تحرير مجلة "آخر ساعة"، والتى كانت ستنشر الحديث،
وشرح له مخاوفه من لسان "البندارى" وشتائمه،
وبعد أن استمع إليه "هيكل" باهتمام قال له: اسمع يا حليم..
بصراحة حديثك مع جليل البندارى مهم جدًا لك وسيعطيك دفعة قوية.
قال عبد الحليم: أعرف، ولكن ماذا عن شتائمه وهجومه؟!
فرد عليه هيكل: بالعكس هو اللى بيشتكى منك
وبيقول إنك بتتهرب منه وبترفض إجراء الحديث معاه.. واعترف "عبدالحليم"
بأن ذلك حدث بالفعل ولكن بسبب الخوف والشتائم.
فكر "هيكل" قليلًا ثم رفع سماعة التليفون متحدثًا مع "جليل البندارى"
وقال: يا أخ جليل أنا عندى عبد الحليم حافظ وهو مرحب جدًا بالحديث
وسعيد جدًا به.. رد عليه جليل "ابعتهولى" قال "هيكل":
يا ريت يا أستاذ جليل تيجى تعمل معاه الحديث فى مكتبى
لأنى عايز أستمتع معاكم بالحوار، وبالطبع فهم "جليل" الهدف من مكالمة "هيكل"..
وجلس "البندارى" وأمامه "عبد الحليم"، وبدأ فى طرح أسئلته،
وكان أول سؤال مكتوبًا وليس مقروءًا، بحيث يراه "عبد الحليم"، ولا يراه "هيكل".
انت جايبنى قدام هيكل عشان ما اشتمكش يا "........."؟
لكن :"عبد الحليم" بذكائه كان يتظاهر بعدم رؤيته للشتيمة المكتوبة،
وأخذ يجيب أنا مولود بقرية الحلوات فى 21/6/1929م مركز
"فاقوس"، "الزقازيق"، وواصل "عبد الحليم" الإجابة فى وقار وجدية.
وظل "جليل البندارى" على هذه الحال، يكتب فى نهاية كل سؤال شتيمة قاسية:
يا كذا وكذا.. لكن "عبد الحليم" أيضًا ظل رابط الجأش،
ولم تفارقه الابتسامة خلال الحوار، وكانت النتيجة أن قام "جليل"
فى نهاية الحديث يعانق "عبد الحليم" معجبًا بذكائه وردوده الواثقة،
وبعدها أصبح الكاتب والناقد "جليل البندارى" واحدًا من عشاق "عبد الحليم"،
وأحد أصدقائه المقربين، وقام بنشر كتاب عنه بعنوان "جسر التنهدات".
فى إحدى بروفات قصيدة "قارئة الفنجان" والتى كانت تجرى فى شقته..
وفى أثناء إجراء البروفة، فجأة توقف عبد الحليم عن البروفة وقال وهو ثائر:
- خلاص يا جماعة.. بلاش بروفة النهارده.
فسأله أحمد فؤاد حسن قائد الفرقة الموسيقية فى دهشة:
- ليه يا حليم.. فى إيه؟
فرد عبد الحليم:
- لأن فيه عازف ناقص فى الفرقة.
ورد أحمد فؤاد حسن فى دهشة أكثر قائلًا:
- مفيش حد ناقص يا حليم.. كل الفرقة موجودة.
فعاد عبد الحليم يقول:
- الأستاذ.. اللى بيتكلم فى التليفون.
فترك العازف سماعة التليفون وانضم إلى أفراد الفرقة الموسيقية
متأسفًا معتذرًا وبدأ يستأنف البروفات.. وبعد عدة دقائق..
أحس عبد الحليم أنه قام بإحراج العازف أمام الحضور..
فأراد أن يعتذر له أمام جميع أفراد الفرقة.
فقال له مازحًا:
- فيه حد يقعد يحب فى التليفون ساعتين؟!
فأحس العازف بأن عبد الحليم يحاول الاعتذار له..
فضحك بارتياح وقال لـ"عبدالحليم حافظ": حب إيه يا حليم.. أنا باكلم الحاجة فى البيت.
فضحك عبدالحليم قائلًا:
ليه.. هو أنت مش بتحب الحاجة؟! والله لأقول لها..
وضحك الجميع واستؤنفت البروفة.
ذات مرة وفى أثناء بروفات أغنية "سواح" بدأ العمل متأخرًا..
أى قبل موعد الحفل بعشرة أيام فقط.. حيث كان من المقرر أن يقدم عبدالحليم
فى الحفل إحدى أغنيات أفلامه، وذلك قبل العثور على أغنية "سواح"..
وبعد البروفة الأولى، طلب بليغ حمدى "ملحن الأغنية"
من عبد الحليم حافظ إضافة بعض الإيقاعات الأساسية للفرقة الماسية..
ونظرًا لضيق الوقت قرر حليم حافظ توقيع غرامة مالية على العازف
الذى يأتى إلى البروفة متأخرًا عن الموعد المحدد..
ووافق قائد الفرقة الماسية على هذا الاقتراح..
والطريف أن أول من دفع غرامة مالية بعد هذا القرار هو حليم نفسه!..
والسبب أنه أثناء صعوده إلى النادى الماسى فى المصعد
تأخر كثيرًا لدى دخوله إلى النادى، قام بإخراج خمسة جنيهات من جيبه..
قيمة الغرامة المتفق عليها.. وأعطاها لقائد الفرقة الماسية..
ثم نظر حليم إلى أحمد فؤاد
حسن قائد الفرقة الماسية وقال له ضاحكًا:
تلاقيك أنت يا فؤاد إللى قطعت التيار الكهربائى عن الأسانسير لأنك كنت "مزنوق"
فى خمسة جنيهات!
وإذا لم يكن حليم هو صانع البهجة ومفجر القفشة،
فهو على الأقل يتجاوب معها للغاية، وفى هذا السياق يروى الكاتب الكبير
أنيس منصور تلك الواقعة قائلًا:
كنا نشجع عبدالحليم حافظ فننشر له صورًا وأخبارًا.
ولا أذكر أن عبدالحليم غنى لنا مرة واحدة، وإنما نحن الذين نغنى وهو –
يا ولداه – مضطر أن يستمع إلينا ويقول: الله.. الله
وأول مرة سمَّعنا حليم "على قد الشوق"
(موسى صبرى وعبدالحميد يونس وكامل الشناوى وحمدى فؤاد
وكمال الملاخ وسعيد سنبل) كنا فى أحد الكباريهات.
وكان يغنيها مطرب ليس معروفًا الآن اسمه محمد المصرى،
والأغنية من تلحين الموسيقار كمال الطويل.
وقد كنا نرددها قبل أن يغنيها عبدالحليم فى أعياد ثورة يوليو.
وكانت هذه الأغنية هى الصاروخ الذى رفعت عبدالحليم إلى مدار فوق.. فوق.
وكانت إعلانًا رسميًا بأنه مطرب جميل الصوت والأداء.
وفى يوم طلب منا كامل الشناوى أن نرتدى بدلًا كاملة
وخصوصًا الكرافتة ولم يقل لنا ما السبب وما المناسبة.
وكانت هذه حالنا مع كامل الشناوى، أن نطيعه لأننا نحبه
وأن نهيئ أنفسنا لأى مفاجأة، فكل مفاجأة مقبولة،
لأن كامل الشناوى مقبول منا جميعًا، مع عظيم الحب والامتنان.
وارتدينا جميعًا البدل والكرافتات ما عدا: فتحى غانم ويوسف إدريس.
وغضب كامل الشناوى أو افتعل الغضب.
وأمر أن ننتظرهما حتى يرتديا الكرافتة. والتقينا جميعًا فى فندق حلمية بالاس،
وكان يحتل جانبًا من المكان الذى يشغله قصر الرياسة الآن،
وفى عدة سيارات تزاحمنا وسارت بنا السيارات إلى حيث لا ندرى.
وتوقفت السيارات أمام بيت لم نره من قبل، ونزلنا ونحن لا نعرف أين نحن.
ولكن مع كامل الشناوى لا يهم أين نذهب وإلى من ومع من.
وأشار كامل الشناوى أن نركب وأن نتبعه. وذهبنا وطلعنا سلالم ودخلنا شقة متوسطة..
لقد كان بيت إحسان عبدالقدوس الذى لم يستطع أن يبدى دهشته لهذه المفاجأة،
فقد اعتاد هو أيضًا على مفاجآت كامل الشناوى،
آخر الظرفاء فى تاريخ الحياة الاجتماعية والصحافية والسياسية فى مصر.
وجلس إحسان عبدالقدوس يرحب بنا وأدهشه أننا نرتدى البدل الكاملة. فسأل:
أنتم كنتم فين يا كامل؟ فقال كامل الشناوى: لم نكن فى أى مكان..
نحن جئنا من أجلك.. وينقصنا شيء مهم جدًا لكى نبدأ الاحتفال.
- احتفال إيه؟
- انت مالك.. ادخل والبس الكرافتة.. ادخل بس..
- ليه؟
- يا إحسان ادخل.. انت فى بيتك.. هو المشوار طويل بينك وبين الكرافتة؟
! ادخل يا أخى.. ما تضيعش الوقت..
- بس فهمنى إيه الحكاية.. أنتم ناويين على إيه..
يعنى ألبس علشان حننـزل وإلا أنتم قاعدين
نفسى هنا؟!
- قاعدين.
- هاها.. يا سلام يا كامل أنت ماتبطلش مقالب.
- البس وتعال..
المنظر العام لنا هو كالآتى: كلنا جالسون غير فاهمين
ما الذى أعده أو دبره كامل الشناوى. ونحن لا نحاول أن نفهم..
ولا كامل الشناوى يحاول أن يوضح. ونحن مستسلمون تمامًا
لأننا نعلم مقدمًا أن شيئًا مضحكًا سوف يقع بعد لحظات.
وظهر إحسان عبدالقدوس كامل الهيئة، وجلس ووقف كامل الشناوى.
وأخرج علبة السجائر وأشعل سيجارة بولاعته الذهبية وقال:
الآن أعلن ميلاد المطرب الفنان عبدالحليم حافظ.
وكان عبدالحليم حافظ يركب آخر سيارة فى هذا الموكب..
ويرافقه شاب لا نعرف من هو. ووقف عبدالحليم حافظ
يغنى بصوته الجميل الحزين: على قد الشوق...!